مصعب بن عمير: قصة إيمان وتضحية
في مكة، حيث تتربع بيوت الثراء، ويسكن النعيم، وُلد مصعب بن عمير. شابٌ يانع، حسن المظهر، منعمٌ بترف الحياة، مدللٌ بين أهله. لم يكن يدور في خلده أن حياته ستأخذ منعطفاً جذرياً، وأن اسمه سيخلد في سجلات التاريخ بأحرف من نور. كان مصعب يُعرف بوسامته وأناقته، وكان محط إعجاب الفتيات في مكة. كان ينفق ببذخ على ملابسه وعطره، وكان يُعتبر رمزاً للترف والرفاهية.
ذات يوم، سمع مصعب عن دعوة جديدة، عن رجل يدعو إلى الله الواحد، عن دين جديد يساوي بين الناس، عن قيم الحق والعدل. لم يتوانَ لحظة، فبالرغم من مكانته الرفيعة في قومه، لم يمنعه ذلك من البحث عن الحقيقة. دخل الإسلام في خفاء، مؤمناً بالله ورسوله، صلى الله عليه وسلم. كان إسلام مصعب حدثاً جللاً في حياته، فقد شعر بتغيير عميق في قلبه، وبدأ ينظر إلى الحياة بمنظور جديد.
لكن إسلام مصعب لم يمر مرور الكرام. فما إن علمت أمه، هند بنت خويلد، بإسلامه، حتى ثارت غضباً. كانت امرأة قوية الشخصية، ذات مكانة مرموقة في قريش. حاولت جاهدة أن تثنيه عن دينه الجديد، لكن إيمان مصعب كان أصلب من أن يزحزحه غضب أم. لقد كانت والدة مصعب شديدة التعلق به، وكانت تخشى عليه من بطش قريش، لكن مصعب كان مصراً على إيمانه، ولم يبالِ بتهديدها ووعيدها.
لم تجد الأم وسيلة لإقناع ابنها، فلجأت إلى الحبس. حبسته في بيتها، ومنعت عنه كل وسائل الترف والنعيم التي كان يعيش فيها. لكن الحبس لم يزد مصعب إلا ثباتاً على دينه، وإيماناً بربه. لقد تحول مصعب من شاب مدلل ينعم بالترف إلى رجل صلب الإرادة، صبور على الأذى، ثابت على الحق.
ضاق مصعب بالحبس، واشتاق إلى لقاء رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وإلى إخوانه المسلمين. فتدبر حيلة، ونجح في الفرار من حبسه، وانضم إلى قافلة المهاجرين إلى الحبشة. لقد كانت هجرته إلى الحبشة محطة هامة في حياته، حيث تعلم الكثير عن الإسلام، وازداد إيمانه رسوخاً.
قضى مصعب في الحبشة فترة من الزمن، ثم عاد إلى مكة. وبعدها، أرسله رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى المدينة المنورة، ليكون أول سفير للإسلام، يعلم الناس القرآن، وينشر الدعوة بين أهلها. لقد كانت هذه المهمة بمثابة اختبار لقدرات مصعب، وقد أثبت جدارته وكفاءته في هذا المجال.
كانت مهمة مصعب في المدينة عظيمة. فقد استطاع بحسن خلقه، ولين كلامه، أن يدخل الإسلام قلوب الكثيرين. فأسلم على يديه سادات المدينة، وشبابها، وشيوخها. وكان له دور كبير في تهيئة الأجواء لقدوم النبي، صلى الله عليه وسلم، إلى المدينة. لقد كان مصعب يتمتع بشخصية جذابة، وكان قادراً على التأثير في الناس وإقناعهم بالإسلام.
شهد مصعب مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، غزوة بدر، وكان من أشجع الصحابة. وفي غزوة أحد، كان مصعب يحمل راية المسلمين، فقطعت يده اليمنى، فأخذ الراية بيده اليسرى، فقطعت يده اليسرى، فاحتضن الراية بذراعيه، حتى استشهد، رضي الله عنه. لقد كانت شهادته في أحد دليلاً على صدق إيمانه، وتفانيه في سبيل الله.
كان استشهاد مصعب خسارة كبيرة للمسلمين. فقد كان رجلاً عظيماً، ذا مكانة رفيعة في الإسلام. وقد رثاه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قائلاً: "ما رأيت أحداً أشد بأساً من مصعب بن عمير". لقد ترك مصعب إرثاً عظيماً، وسيبقى اسمه خالداً في ذاكرة المسلمين إلى الأبد.
رحم الله مصعب بن عمير، وأرضاه، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.